حاتم علي.. والتغريبة الفلسطينية التي لم تنتهِ
لقد وثَّق حاتم علي، المخرج والممثل السوريُّ الجولانيُّ الراحل عن 58 عامًا، حكاية النكبة الفلسطينيّة، وسرديّتها التاريخية، ليس بكونه جزءًا أصيلًا من المسلسل الأشمل «التغريبة الفلسطينية» فقط، إنما بحقيقة الرواية التاريخيّة التي تناولها، وبدت واضحةً ومبدئيّةً من الثانية الأولى في المسلسل: تصوير زمن الانتداب البريطانيّ ومواجهة الفلسطينيّ له في ظل هجرة اليهود إلى فلسطين وتأسيس العصابات والمنظمات الصهيونية التي هدفت للاستيلاء على أراضي الفلسطينيين وتهجيرهم منها، وردة الفعل التي واكبت كل ذلك، من حراكات سياسية وشعبية وهبّات وثورات وإضرابات عمّت أرجاء فلسطين، إلى تسليط الضوء على النقاش المجتمعيّ حول مستقبل البلاد في ضوء قرارات الأمم المتحدة ومنها قرار تقسيم فلسطين.
ثُمَّ انتقل إلى سرد المظاهر الأولى لنكبة فلسطين عام 1948، واستشعار الفلسطينيّ، وخاصة مَنْ قاتل في صفوف الثورة عام 1936، باقترابها، فأظهر المسلسل حالة التحشيد والاستعداد للمواجهة في القرى والمدن، وإن كانت متواضعة في كثير منها، كما ركّز على التداعيات السياسية التي واكبتها، إلى أن وقعت اللحظة الحاسمة: بداية حرب التطهير العرقي التي خاضتها العصابات الصهيونية: هاجاناه، إرجون، بيتار، شتيرن، بلماح وغيرها، ضدّ الفلسطينيين العُزّل، رميًا بالرصاص والقذائف ورعبًا وتهجيرًا ببثّ الخوف في نفوسهم لترك منازلهم قبل أن تصلها رصاصاتهم، الحربُ التي سُمِّيت بـ “حرب النكبة”، والتي ما زالت مُستمرّةً حتى يومنا هذا، بشتات أكثر من نصف الشعب الفلسطينيّ، ولجوئه، في مخيمات وبلاد بعيدة عن دفء أرضه ومستقر روحه.
ارتبط حاتم علي، بالوعي الجمعي للعائلة الفلسطينيّة والعربيّة عبر تناوله للنكبة بفصولها التاريخيّة من خلال التلفزيون، فلم تكن «التغريبة الفلسطينية» مسلسلًا عاديًّا في وعي الفرد العربيّ بل العائلة جمعاء، لأنه جمعها بكل أفرادها أمام الشاشة؛ ليس بصفتهم مشاهدين لمسلسل تلفزيونيّ عاديّ إنما بصفتهم شهودًا جددًا على النكبة، شهودًا يرونها مرة أخرى، فتُحفر في أذهانهم وأرواحهم بزمنها وأوجاعها ومأساتها وخذلانها ونضالها، بحقولها وبيوتها وناسها وطبقاتهم الاجتماعيّة وأنماط حياتهم وعلاقاتهم، وصولًا إلى المجازر الصهيونية والهجيج الكبير ورحلة اللجوء والخيبة والمرارة على أعتاب الخيام والمأساة عام النكبة، وليس انتهاءً بحرب جديدة “نَكَسَتْ” حلم العودة، وأوغلت شتات الفلسطينيّ على شتاته.
رحل مخرج «التغريبة الفلسطينية» في 29 ديسمبر 2020، لكنّ مسلسله بقي المسلسل العربيَّ الجامع الذي يكادُ يكون الأبرز من بين مئات الأعمال التلفزيونية لا سيّما تلك التي أخرجها أيضًا، فحضوره على الشاشة لم يكن مُجرَّد مشاهد تمثيليّة، إنما قضية حيّةً مدادها التضحية والنضال، وصوتُها روايات أهلها الذي هُجِّروا من أراضيهم، وصُورتُها عذاباتهم وشتاتهم وإصرارهم على الفداء حتى العودة، فلم يطرح حاتم علي التغريبة إلّا بوصفها حدثًا مُركّبًا حقيقيًّا وكبيرًا سُردت أحداثه بكل ما فيها من مشاعر ومعانٍ لتبقى حاضرةً بواقعية بالغة في وعي مشاهديها، ولتتعدّى بخصوصيّتها وفرادة صدقها وإخلاص تعبيرها الصورة التلفزيونيّة لتكون الصورة الحيّة التي تلامس جوهر مشاهديها، القريبة منهم حدّ البكاء، الآسرة لأبصارهم وقلوبهم حدّ الحقيقة، المتماهية مع الرواية التي سمعوها من أجدادهم، عن بلادٍ ضاعت، وعن تغريبةٍ لم تنتهِ..