«يا يمه في دقّة ع بابنا».. أغنيةٌ تَعزفُ لحن الفداء والنكبة حتى يومنا هذا!
شكَّلت ملاحم الفداء الفلسطينيِّ جزءًا مهمًّا من وعي الفلسطينيين داخل الأرض المحتلة وفي بلاد اللجوء، وامتزجت قصصها بأحاديث الناس، رواياتهم، مواويلهم أغانيهم وأهازيجهم، وتناقلوها حتى تفاعلت في وعيهم، وانعكست في يوميّاتهم وأحداثهم وقضاياهم، وتمازجت فيهم حتى صارت هويّتهم الثقافية والنضالية، ليس باستحضارها فقط، إنما بإعادة صياغتها والتفاعل معها وإدخالها في تفاصيل حياتهم.. «يا يمه في دقّة ع بابنا» واحدة من هذه الملاحم، التي تعكسُ صورة من صورة النكب، نُضيء لكم جانبًا منها..
«يا يمه في دقّة ع بابنا».. عودةٌ من شتات اللجوء إلى أرض النكبة
«يا يمه في دقه ع بابنا، يا يمه هاي دقة أحبابنا، يا يمه هاي دقة قوية، يا يمه دقة فدائية»، كلمات عشنا معانيها، وألفتها مسامعنا بصوت الفنان الفلسطيني الراحل إبراهيم صالح (أبو عرب)، فيها من الفداء والحنين والألم، وفيها صورة الفدائيِّ الحقيقيِّ الذي يُضحِّي لبلاده ويبذل من أجلها، حتى آخر نفس.
تماهت كلمات الأغنية سنين طويلة في وعينا الجمعيّ، ولصوت أبو عرب، نبرة فريدة تضفي خصوصيّة بالغة على معناها ورسالتها، وتُدخل السامع إلى روح القصة، زمانها ومكانها، وتدخله إلى تفاصيلها كأنه يعيشها بكل كلمة، ولحن، وإيقاع! أعادت الأغنية وقع النكبة إلى الأذهان، عبر العودة إلى البلاد، وأي عودة تلك المحمولة بالفداء، المشحوذة بالحنين إلى الأرض المحتلة..
قصة أغنية وثّقت «دقَّة» الفدائيّين وعشقهم للحريّة!
عام 1973، أغلقت الحدود، ولم يتمكّن الفدائيّ بلال – وهو اسم حركيٌّ، من العودة إلى لبنان التي أبعده الاحتلال إليها. كان بلال قد تسلّل في ذاك العام إلى الأرض المحتلة، بعد 5 سنوات من الإبعاد القسريّ، لتنفيذ عمليات فدائيّة ضد العدوّ مع مجموعة من رفاقه، نفّذت عمليات ومهام مختلفة في الأرض المحتلة، فعاش في جبال ومغارات الضفة المحتلة.
ذات يوم، قرّر بلال الذهاب لرؤية أمه، في بلدته بيت فجّار، التي ولد فيها، قضاء مدينة بيت لحم، وقبلها بمُدّة، وصل عائلته خبرًا مفاده أن ابنها ارتقى خلال المعارك في قلعة الشقيف جنوب لبنان، فتحوا له عزاءً وعرف الناس أنه صار شهيدًا، فعندما وصل المنزل ودَقَّ بابه، سمع صوت والدته “مين؟”، فجاء صوته: أنا ابنك بلال! لم تصدقه الأم ظنّنًا منها أن هذا كمين لقوات الاحتلال لتكشف المتعاونين مع الفدائيّين، فردّت: أنا ابني استشهد في لبنان!
يقول بلال في توثيقه للقصّة: «كان معي رفاقي في المجموعة، ذهبنا معًا إلى أقارب موثوقين بالنسبة لعائلتي، أخبرناهم بما حدث، ومن ثم ذهبنا معًا إلى بيتنا، فتحت أمي الباب، ودهشت عندما رأتني. قبَّلت بُندقيّتي واحتضنتها قبل أن تُقبِّلني وتحتضنني..وبقينا في البلاد لمدة عامين قبل أن نتمكّن من العودة إلى لبنان مرة أخرى».
وفي إحدى المرّات، وبعد العودة إلى لبنان، يقول بلال: «كنتُ في زيارة إلى مدرسة أبناء الشهداء في مدينة عالية اللبنانية، وكان برفقتي رفيق الدرب غازي عبد القادر الحسيني، وخلال زيارتنا صادفنا أبو عرب هناك، كان معروفًا وفاعلًا. قال لي غازي، أخبرنا عندما طرقت باب بيتكم في بيت فجّار وفتحت لك والدتك الباب، فرويتُ له الحكاية، وقال هذه القصيدة والأغنية».
أغنيةٌ تَعزفُ لحن الفداء والنكبة.. حتى يومنا هذا!
كتب أبو عرب، كلمات «يا يمه في دقّة ع بابنا» الشهيرة التي نعرفها جميعًا، وكتب معها موّالًا لم يعلق كثيرًا في ذاكرتنا ووعينا، لكن الثابت أن قصّة بلال، ودقّته على باب بيته، هي دقّة ملايين الفلسطينيين الذين ينتظرون العودة إلى منازلهم، ينتظرون بحرقة وصبر وعذاب، فيُعزّون أنفسهم بهذه القصة، على أمل العودة القريبة، يومًا ما..
طرقت الباب جاوب صوت أمي
العوض بسلامتك ماتو الحباب
قلتلها أنا ابنك بلالي
الدهر غدار بفراقك بلالي
قالتلي كان لي بدرعا بلالي
انكسف بدري وشعاع الضو غاب
يا أمي رحبي بالبطل وهلي
صلبي بفرقتك خمسين هلي
قالت دعني قبل الكلاشن هلي
حمي زندك حبيبي من المصاب
آه يا ويلي آه يا ويلي…