بالأهازيج والأمثال الشعبية.. هكذا يستقبل الفلسطينيون موسم الزيتون
لا يقتصر العرس الفلسطينيُّ عند الفلسطينيِّ على موسم الأعراس الذي يبدأ مع انتهاء الربيع، بل إن موسمَ عرسٍ آخر يبدأ في أواسط شهر تشرين الأول، احتفالًا ببدء قطف الزيتون وعصر الزيت، لدلالته في هويته التراثية والثقافية، ولما يُشكِّله من إرثٍ أصيلٍ في وعيه ووتاريخه وذكرته، وارتباطه بأرضه، وخاصة شجرة الزيتون التي يرويها طوال شهور ويهتم بها لتُخرجَ خيرَ ما فيها: الزيت، ولرمزيّتها في تشبُّثه بأرضه ضد محاولات اقتلاعه منها، كما أنه تغنّى بها بالأهازيج والقصائد والأمثال والأغاني الشعبيّة، فعَدّها عروسًا حسناء، وقال عنها في أهازيجه المُتوارثة: “زيتوني أطيب عروس، ما بتتثمّن بالفلوس، تحميني الفقر والبؤس، ومن شر يوم عبوس”.
بالإضافة إلى الفطور الفلسطيني التقليديّ المكون من الزيت والزعتر والأجبان والخضروات والشاي أو القهوة المُعدّة على نار الحطب، يحتفل الفلاح الفلسطينيّ بموسم قطف الزيتون احتفالًا خاصًا، لأن حياته تعتمد اعتمادًا أساسيًّا على الزيت، لاستخدامته المتعددة ولكونه مصدر رزقه الأساسيّ، فيستقبل هذا الموسم أثناء جَدِّ أول شجرة زيتون في أرضه وتساقط حَبَّاتها: “يا زيتونة بومسري، هرّيلي بلح هرّي، ويا زيتونة بوعرموش هرّيلي ذهب وقروش”، ويتفاخر بها تفاخرًا شديدًا وواضحًا، فيدندن: “زيتونتي يا حبها بلح بلح، لو يدري بها القاضي سَرَح”.
كما غنّى الفلّاحون للزيتون كثيرًا، وألّفوا الأهازيج، دندنوا عمّا يعبر عن حبهم لهذا الموسم: “يا زيتون الحواري صبح جدادك ساري، يا زيتون اقلب ليمون، اقلب مسفن بالطابون، بجدّك بالجدادة وبدرسك في البدَّادة”، والجدادة هي الأداة التي تُستخدم لـ “قطف الزيتون”، ولها مسميات أخرى مثل: الطوّالة والشاروط، أما البدَّادة، فهم عمال معاصر الزيتون، كما غنّوا أغانٍ ترفع هممهم وتُعلى معنويّاتهم وهم يعتلون أشجار الزيتون، فقالوا: “شمس غرّبت لاحت، مثل الخيل ولو لاحت، وأم الخيل تردّ الخيل، وأم الخيل ما ترتدّ إلا بلجام وعدّة”، بينما عبّروا عن عتابهم لزيتونهم في المواسم التي يكون فيها الجني قليل، وتُسمّى هذه المواسم “شلتونة”. غنّوا: “يا زيتون الحق عليك، واطلع زيتك من عينيك”.
ولم يحظَ الزيتون بمكانته لدى الفلاح الفلسطينيّ لارتباطه بالأرض وأهميته فقط، بل أيضًا مَثَّل له أساسًا حقيقيًّا في يوميّاته، فاستخدم خشب الزيتون في الطبخ وتسخين المياه على الموقد والتدفئة شتاءً، وصنع الصابون من الزيت عدا عن استخداماته في جزء كبير من أكلاته اليومية، إضافة لاستخدامه كعلاج لتخفيف الآلام، وتليين المعدة، وتنظيف الكلى، وإذابة الحصى، واستخدم أيضًا في عمل الجبائر وتغذية الشعر وتصفيفه، وإنارة المنازل ليلًا. كل هذه الاستخدامات جعلت للزيتون قيمة كبيرة لا يُضاهيه فيها شيء، إذ حظي بمكانة عالية كونه عماد لأسرة الفلاح الفلسطينيّ، ولهذا عَبَّر #عن هذه الأهمية في عديد الأمثال الشعبية: “إن حضر القمح والزيت، تسوكرت مونة البيت”، “الزيت اعماد البيت”، “إن كان عندي خبز وزيت، زقَّفت أنا وغنّيت”.
وعبّر عن طعم الزيت ومشقّة تلقيط حبّاته وصولًا لتنظيفه وعصره، فقال: “زيته طيّب أما لقطه بشيّب”، لكنه رغم ذلك يعرف قيمة زيته، ويحتفظ به، ويبقيه في منزله إلى وقت الحاجة لبيعه، فهو لا يبيعه سريعًا إلا بمقتضيات تتعلّق بمتطلباته الأساسية: “خلي الزيت بجراره تا تيجيه أسعاره”، و “الزيتون النبالي زيته سيّال ولقاطه بهدّي البال”. الزيتون النبالي هو أشهر أنواع الزيتون خاصة في قرى شمال فلسطين المحتلة.
وبعد النكبة، ظهرت الكثير من الأغاني التراثية الشعبية التي تعبر عن احتفاء الفلاح الفلسطيني بموسم الزيتون، وحنينه للأيام التي كان يقضيها رفقة عائلته في جني الزيتون وعصره، ومنها “على دلعونا وعلى دلعونا زيتون بلادي أطيب ما يكونا، زيتون بلادي واللوز الأخضر، والميرامية ولا ننسى الزعتر، وأقراص العجة لما تتحمّر ما أطيب طعمتها بزيت الزتونا”، وكثير من الأغاني الحديثة المستندة في كلماتها ولحنها وتوزيعها إلى التراث الفلسطيني، الأمر الذي يعمل عليه تلفزيون فلسطيني ويتخذه منهجًا له في إحياء الأغنية التراثية الفلسطينية وإعادة إنتاجها وإبرازها في واجهة الفن العربيّ، لما لها من أثر في ترسيخ الموروث والرواية والتاريخ الفلسطيني وقضاياه، فأنتج التلفزيون مجموعة كبيرة من الأغاني، منها أغنية “شجرة زيتون” للفنانة الفلسطينية سدين الأحمد.
وحتى اليوم، يغني الفلسطينيّون هذه الأهازيج، ويردّدون هذه الأمثال خلال موسم القطاف، تعبيرًا عن صلتهم بأرضهم، وتجذُّرهم فيها، وتخليدًا لموروثهم الشعبي التراثيّ، وتحديًا لمحاولات الاحتلال لاستيطان أراضيهم وقطع أشجارهم وثنيهم عن التمسك بثوابتهم ووجودهم، فغنّوها في وجه المحتل وردّدوها بصوت عالٍ تحدٍّ لمستوطنيه الذين يداهمون كروم الزيتون ويعتدون على المواطنين في محاولة لنهبها ومنعهم من قطافها في كل موسم، ما يدفعهم للتشبُّث بأرضهم وموروثهم، وتعزيزه لدى أطفالهم بمشاركتهم في جني الزيتون وعصره، وحفظ الأمثال والأهازيج والأغاني.