توثيق التراث الفلسطيني بالمثل الشعبي
أسهم المثل الشعبي الفلسطيني في توثيق حياة الفلسطينيين وثورتهم ضد الانتداب والاحتلال، كما أنه عبّر عن مناحي الذاكرة الفلسطينية ويومياتها ومناسباتها وأعيادها، فهو نتاج مواقف وقصص وأحداث لخّصها الناس بلهجاتهم وأساليبهم المحكية البسيطة، وتناقلوها فيما بينهم لتُسمّى فيما بعد أمثالًا شعبية أصبحت جزءًا أصيلًا من الموروث الشعبي الفلسطيني، اكتسبت انتشارًا واسعًا بعد تحويلها إلى أغانٍ تراثيّة وثوريّة، إن عبر توزيعها وتلحينها لتُحاكي حادثًا أو قصة تناقلها الناس وغنوّها في تجمعاتهم ومناسباتهم فذاع صيتها وانتشرت على نطاق واسع، أو عبر تحويل قصة المثل إلى أحد أنواع الأغاني الشعبية، مثل “طلت البارودة والسبع ما طلّ”، و “يا ظريف الطول”، و “يا يما في دقة ع بابنا”، وغيرها.
وخلال فترة الانتداب البريطاني، لعبت الأمثال دورًا كبيرًا في حض الناس على الدفاع عن أراضيهم من محاولات سرقتها من قبل قوات الإنجليز والعصابات الصهيونية، كما ساهمت في التعبير عن حالة الثورة والمواجهة التي واكبت ثورة البراق وما بعدها، باستخدام تعابير من اللغة المحكية العامية وصور رمزية وتاريخية تعبر عن المواجهة وعدم الخوف، وتذكر الإنجليز المحتلين بالهزائم التي مني بها أسلافهم على أسوار عكا رغم الحصار الطويل الذي تعرضت له المدينة خلال حملة نابليون بونابرت، وهو ما عبر عنه المثل الشعبي “لو عكا بِتْهاب البحر ما جاورته”. حيث يظهر مدى التحدي والعناد الذي تتحلى به المدينة، فما بالك بناسها وسكانها، كما يشير إلى الصلابة والعزيمة التي تتميز بها لدرجة أنها لا تخاف البحر رغم هدير أمواجه وتقلباته، وفي هذا تأكيد على الإصرار على المواجهة والدفاع عن الوطن مهما كانت المخاطر والصعاب، وعندما كان يصل إلى مسامع الثوار أخبار حول نية الإنجليز بالهجوم على معاقلهم ومقراتهم التي يتحصنون بها، كانوا يرددون باستخفاف: “يا خوف عكا من هدير البحر!”.
ومن الأمثال التي كان يردّدها الثوار خلال فترة الانتداب، وانتشرت بعد ذلك بين الناس، ليُردّدوها في مجالسهم وأحاديثهم التي كانوا يتناقشون فيها عمّا يحدث في بلادهم “لا تحسب سياج الدار بحمي من العدا، ما سياج الدار إلا رجالها”، وهو مَثَل يعكس مكانة ودور قادة الثورة ورجالها الذين شكّلوا فصائل ضمّت العشرات في جميع المدن الفلسطينية، فهم السياج والحامي الحقيقي للشعب الفلسطيني في مواجهة الانتداب والعصابات الصهيونية ومشروعها لتقسيم واحتلال فلسطين، كما يُصّور هذا المثل الشعبي “لو بدنا نخاف من الضفادع ما خضنا بالنهورة” العزيمة التي يتحلّى بها الفلسطيني وعدم خوفه من الصعاب مهما كانت للدفاع عن أرضه وشعبه، إذ يشبه نفسه برجل يخوض الأنهار للوصول إلى مبتغاه دون أن يحسب حسابًا لما قد يواجهه في طريقه هذه، لأن غايته سامية لا يمكن لأي شيء أن يوقفه عن المضي فيها.
واشتهرت قصّة نساء فلسطينيّات وقفن حول سجن يأسر فيه الاستعمار أزواجهن وأبنائهن، وبدأن يرددن كلمات بنمط مُشفّر سُمّي “الملولاله”، يعتمد على إضافة حرف اللام في آخر كل كلمة من كلماتها حتى لا يكتشف السجّان معناها نظرًا لحساسية الرسائل التي تحملها للأسرى بالاستعداد للحظة التحرير والحثّ على الصمود والصبر، وسرعان ما تحوّلت هذه القصة إلى رواية شعبية تناقلها الناس وكتبوا عنها الأمثال والقصص والأغاني، ومنها أغنية “يا طالعين الجبل” التي يُعتقد أنها ظهرت في الشمال الفلسطينيّ خلال الانتداب البريطاني، ومن ثم تطوّرت إلى أن أصبحت أغنية شعبية يدندنها الناس في كل مكان، ومن ثم حُوّلت قبل سنوات قليلة إلى أغنية تراثية، بكلمات وتوزيع وألحان تُحيي القصة وتأخذنا سماعيًّا وروحيًّا إلى تفاصيلها كما لو أنها حدثت اليوم.
ومثل آخر على تحدي الفلاحين الفلسطينيين لجباة الضرائب الإنجليز واعتدادهم بأنفسهم أمام مكر الموظفين ومحاولاتهم جبي أكبر قدر من الضرائب، مستغلين عدم قدرة الفلاحين على احتسابها وجهلهم بنسبتها، حيث كان الفلاحون يستعينون بشيخ القرية أو أبنائهم المتعلمين لاحتسابها، الأمر الذي كان يفاجئ موظفي الضرائب ويغيظهم بأن الفلاحين يعرفون قيمة الضريبة، ومن هنا شاع المثل الشعبي “جاي تبيع السلق على أهل سلوان”، فدلّل هذا المثل على ذكاء الفلاح وإلمامه بشؤونه واعتداده بنفسه في مواجهة مكر الإنجليز وخداعهم، وأنه لا يمكن لأحد أن يستغله، فهو صاحب الأرض والعارف بكل خبايها وشؤونها، وقيل في مثل هذه المواقف أيضًا “البحر بده بحر قباله”، في إشارة إلى أنه مهما كان الخصم قويًّا وذكيًّا إلا أن هنالك صاحب حق قويّ وذكيّ أيضًا يفعل أي شيء في سبيل أرضه ووطنه، لهذا “صاحب الحق عينه قوية” لأنه “ما أغلى من العرض إلا الأرض”.
حتى إن الفلسطيني عندما يسافر إلى قرية مجاورة أو مدينة في البلاد أو خارجها للتجارة أو العلم أو في زيارة لأقاربه، لم يكن يستطيع الاغتراب عن أرضه ووطنه لفترات طويلة، فكان يعتبر بقاءه فيها رباطًا ودفاعًا، ودليل وجود لا يمكن لأحد أن يأخذه منه، ولهذا كان يعبر عن حنينه إلى أرضه بأمثال كثيرة منها: “البلاد اشتاقت لأهلها” و “البلاد طلبت أهلها” و “الغربة كربة والفُرقة مُرّة”، وفي كل مثل من هذه الأمثال صور بديعة تصف شعوره الصادق تجاه مسقط رأسه، فمجرد الابتعاد عنه يعني أن يشعر بكرب وفراق ومرار واشتياق لا حدود له، ولهذا كان دائمًا يعود إلى أرضه، يزرعها ويحرثها ويهتم بها مثلها مثل أي فرد من أفراد أسرته، وعندما كانت تصدر قرارات من سلطات الانتداب، كان يدعو لمواجهتها والتظاهر ضدها والاعتراض عليها بوضوح شديد، “الساكت في الحق ناطق بالباطل”، وهي دعوة للجهر بالحق وإعلائه وعدم الخوف من التصريح به طالما أنه قول حق.
لقد عبّرت الأمثال الشعبية الفلسطينية بعفويّة وبساطة عن يوميّات الفلسطينيّ وقضاياه وهمومه، والتي تطوّرت بدورها عبر الأغنية الشعبيّة وأنماطها المختلفة، وترجمها الفن الفلسطينيّ بعد ذلك إلى أغنية وطنية حديثة، وَثَّقت المثل الشعبي وأعادت إحياءه بأشكال غنائية مختلفة، تحافظ على الرواية الاجتماعية والحياتية والثورية المستمدة من المثل وما يحمله من معانٍ وقصص، وتُنتجه غنائيًّا وفنيًّا ليبقى حاضرًا في وعي الشعب الفلسطيني وأجياله الجديدة، لتعزيز روايته وقصّته وحقيقة وجوده ونضاله المستمرّ منذ عشرات السنين، إضافة إلى أنه يعكس العلاقة الوثيقة بين المثل الشعبي والأغنية الفلسطينية في كل مراحلها، والرسالة الفنية التي يُرسّخها عبر إحياء الأمثال الشعبية في التراث الفلسطينيّ المُغنّى، نظرًا لأهميتها وأصالتها في الموروث الشعبي والغنائي الفلسطينيّ.