“قناع بلون السماء”: رحلة أدبية من زنزانة الأسير إلى منصة البوكر
في مشهد يمزج بين مرارة الواقع وقوة الإبداع، حصد الأسير الفلسطيني باسم خندقجي الجائزة العالمية للرواية العربية 2024، عن روايته “قناع بلون السماء” الصادرة عن دار الآداب في بيروت، ليُثبت للعالم أجمع أن الإرادة الفلسطينية لا تنكسر، وأنّ الإبداع ينبض حتى في أحلك الظروف.
تم اختيار الرواية الفائزة من بين مئة وثلاثة وثلاثين رواية رشحت للجائزة في هذه الدورة من قبل لجنة التحكيم، وتم اعتبارها الأفضل بين الروايات التي نُشرت بين تموز/يوليو 2022 وحزيران/يونيو 2023.
لا تعد رواية “قناع بلون السماء” مجرد عمل أدبي فريد، بل هي رمز للصمود والإرادة الفلسطينية التي لا تنكسر. فباسم خندقجي المعتقل منذ ما يقارب 20 عامًا، لم يستسلم لظروف سجنه القاسية، بل وظّف إبداعه لنسج حكاية إنسانية مُؤثرة تُجسّد واقعًا فلسطينيًا مُعاشًا.
تروي الرواية قصة نور، عالم آثار فلسطيني يعيش في رام الله، يجد هوية زرقاء” وهي لون الهوية التي يمنحها الاحتلال الإسرائيلي لمواطنيه” في داخل معطف قديم تُثير في داخله تساؤلات عميقة. بدافع الفضول، يرتدي نور قناع المُحتلّ ويغوص في رحلة مُذهلة لفهم مفردات العقل الصهيوني.
خلال هذه الرحلة، يتحوّل نور إلى “أور”، ويُشارك في بعثة تنقيب في إحدى المستوطنات الإسرائيلية. وهناك، يواجه نور صراعًا داخليًا بين هويته الفلسطينية الحقيقية والهوية المُصطنعة التي فرضها عليه المحتلّ.
في خضمّ هذا الصراع، تُطلّ علينا فلسطين من وراء القناع، غنية بتاريخها وثقافتها. يُحاول نور التنقيب عن حقيقة الأرض المحتلة، ويكشف عن الظلم والقهر الذي يعاني منه الشعب الفلسطيني.
مع تقدّم الأحداث، يُقرّر نور التخلص من قناع أور، ويُعلن تمسّكه بهويته الفلسطينية. يُصبح نور رمزًا للمقاومة والصمود، ويُلهم القارئ بالصبر والأمل في تحقيق النصر والعدالة.
غيبت سجون الاحتلال باسم عن مسرح التتويج والاحتفال وتسلم الجائزة بالنيابة عنه شقيقه يوسف خاندقجي، ولم يكن هذا أصعب ما في الحكاية، بل تفاصيل الانتصار والوصول إلى هذا الفوز بحد ذاته لم تكن بالأمر الهين، فجاء على لسان نادي الأسير الفلسطيني أن الحرب على الرواية الفلسطينية، شكّلت نهجاً ثابتاً لدى الاحتلال الإسرائيليّ في مواجهة الوجود الفلسطينيّ، وكانت إبداعات الأسرى هدفاً دائماً لأجهزة الاحتلال من خلال مصادرتها وملاحقتها، وفرض عقوبات بحقّ الأسرى الذين تركوا بصمة واضحة وأثراً على الصعيد الإنتاج المعرفي والأدبي.
من جهتها تواجه عائلة الأسير باسم خندقجي المزيد من المعاناة والقهر، بعد أن فاقمت سلطات الاحتلال الإسرائيلي من إجراءاتها العقابية بحق نجلها، منذ ترشّح روايته للجائزة العالمية للرواية العربية.
حيث قوبل هذا الإنجاز الأدبي بالمزيد من العقاب من قبل سلطات الاحتلال، حيث تمّ عزل خندقجي في سجن عوفر، في خطوةٍ تهدف إلى عزله عن العالم الخارجي وكسر إنجازه.
وبعد إعلان فوز رواية “قناع بلون السماء” بدأت تشن حملات تحريض واسعة على مواقع ووسائل إعلام إسرائيلية ضدّ الكاتب، مستخدمةً لغة مشحونة بالكراهية واتّهامات باطلة.
فقد وصفت صحيفة هآرتس الإسرائيلية خندقجي بـ “الإرهابي الفلسطيني المتورّط في قتل إسرائيليين”، مُتجاهلةً حقيقة كونه أسيرًا يقبع خلف القضبان منذ عام 2004، دون توجيه أيّ تهمة رسمية إليه.
ولم تقتصر الحملة على التشهير بشخص خندقجي، بل امتدت لتشويه روايته “قناع بلون السماء” ونفي قيمتها الأدبية، وذلك في محاولة يائسة لمنع فوزه بالجائزة المرموقة.
وتأتي هذه الحملة في سياقٍ متواصل من محاولات إسرائيلية لطمس الصوت الفلسطيني ومصادرة حقّه في التعبير، خاصّةً على الصعيد الثقافي.
وتُشير الناطقة الإعلامية باسم نادي الأسير الفلسطيني، أماني سراحنة، إلى أنّ الأسير خندقجي ليس الوحيد الذي يتعرّض لمثل هذه الإجراءات العقابية، فكلّ أسيرٍ ينجح في إصدار عملٍ أدبيّ أو إبداعيّ يُصبح هدفًا للتهديدات والملاحقة داخل السجن، بهدفِ خنقه ومنعه من التعبير عن نفسه.
كما ويعاني الأسرى الكتاب والفنانين من نقص الأدوات والكتب، وحرمانهم من التواصل مع العالم الخارجي، ومصادرة أعمالهم الأدبية، بالإضافة إلى التعرض لمختلف أشكال التنكيل والمضايقات من قبل إدارة السجون الإسرائيلية.
وأكدت سراحنة، أنّ سياسة مصادرة مقتنيات الأسرى، بما في ذلك أعمالهم الأدبية، تُمارس بشكلٍ ممنهج من قبل الاحتلال، بهدف التضييق عليهم وكسر إرادتهم، مما يجبر الأسرى إلى كتابة أكثر من نسخة من أعمالهم للحفاظ عليها من المصادرة.
ورغم كل هذه التضييقيات الا أن نضال الأسرى لا يتوقف في سبيل تحرير كلماتهم وابداعهم فكان صدور رواية “قناع بلون السماء” وفوزها انتصارا وانجازا عظيما في هذه المعركة على عدّة مستويات:
–انتصار للإبداع الفلسطينيّ في وجهة القهر: يُؤكّد هذا الفوز على قدرة الشعب الفلسطينيّ على الإبداع والعطاء، حتى في ظلّ أصعب الظروف. ويُمثّل خندقجي رمزًا لصمود الأسرى الفلسطينيين وإصرارهم على التعبير عن أنفسهم ومشاركة إبداعهم مع العالم.
–اعتراف عالميّ بأدب السجون: يُسلّط هذا الفوز الضوء على أدب السجون الفلسطينيّ، ويُؤكّد على قيمته الأدبية والثقافية. ويُمثّل خندقجي صوتًا من بين مئات الأصوات الأدبية المُبدعة التي تُنير ظلمة السجون الإسرائيلية.
–رسالة تحدٍّ للاحتلال الإسرائيلي: يُمثّل هذا الفوز رسالة تحدٍّ للاحتلال الإسرائيليّ وممارساته القمعية بحقّ الأسرى الفلسطينيين. ويُؤكّد على أنّ الاحتلال لا يستطيع كسر إرادة الفلسطينيين أو منعهم من التعبير عن أنفسهم.
يضاف هذا الإنجاز إلى سلسلة من الإنجازات للتجربة الأدبية الفلسطينية في المعتقلات الإسرائيلية والتي تشكل ظاهرة استثنائية وفريدة من نوعها، تُجسّد صمود الشعب الفلسطيني وإبداعه في وجه أقسى الظروف، فمنذ فجر الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، تحولت سجون الاحتلال إلى مسرحٍ لتجارب إنسانية مؤلمة، لكنّ الأسرى الفلسطينيين لم يستسلموا لليأس والقهر، بل وظّفوا إبداعهم كسلاحٍ لمقاومة الاحتلال والتعبير عن آمالهم وتطلعاتهم.
فلم يكن الأدب الفلسطيني في المعتقلات مجرّد هواية أو تسلية، بل كان أداةً فاعلةً للمقاومة والصمود. فوجد الأسرى في الكتابة وسيلةً للتعبير عن مشاعرهم وأفكارهم، وفضح ممارسات الاحتلال الظالمة، وتوثيق معاناتهم اليومية، ونقل تجاربهم إلى العالم الخارجي.
كما وتنوّعت أشكال الإبداع الأدبي في المعتقلات، فشملت الشعر والرواية والقصة القصيرة والمقالات الصحفية والمسرحيات، وقد برز العديد من الكتّاب الفلسطينيين من وراء القضبان، وأصبحوا رموزًا للنضال والكفاح الفلسطيني كما حدث أخيراً مع الأسير باسم خندقجي فقد سبقه أعلام في الفن والكتابة مثل: “محمود درويش، سميح القاسم، فدوى طوقان، توفيق زياد”
وعلى الرغم من كلّ هذه التحديات، حقّق الأدب الفلسطيني في المعتقلات إنجازاتٍ أدبيةً عظيمةً، وساهم في إثراء الثقافة العربية والعالمية، وتُرجمت أعمال العديد من الكتّاب الفلسطينيين إلى لغاتٍ عديدة، وحظيت بتقديرٍ كبيرٍ من النقّاد والقراء على مستوى العالم.