سمير مرقص يكتب – فى ذكرى “حنظلة” الغاضب
فى 29 أغسطس الماضى حلت الذكرى الثلاثون لاغتيال فنان الكاريكاتير الفلسطينى «ناجى العلى»(1937 ــ 1987). اُغتيل فى لندن عن عمر يناهز الخمسين سنة. أى أنه فى هذا العام تحل ذكرى ميلاده الثمانون، أيضا…
وحسنا فعلت الأستاذة منال لطفى أن ذكرتنا به وبأن قضية اغتياله لا تزال محل بحث وتحقيق إلى الآن بحسب ما فى موضوعها المتميز المعنون: «ناجى العلى يستجوب قاتليه» الذى نشر فى ملحق أهرام الجمعة الأسبوع الماضى.
«ناجى العلى»؛ هو ابن النكبة الفلسطينية العربية بامتياز…ابن ضياع الوطن وسكنى المخيمات والترحال الدائم… لم يكن لديه إلا موهبته الفنية ليعبر بها عن مدى ما يختزنه من ألم وحزن وغضب. لذا جاءت رسوماته قاسية فى تجسيدها للواقع. لذا وبحسب ما جاء فى تحقيق «أهرام» الجمعة الماضى بأنه قد يكون هناك «انقسام حول الجهة التى تقف وراء اغتياله. لكن مقابل هذا، ليس هناك انقسام حول الأسباب. فالأسباب معروفة وهى رسومات ناجى العلي»…والسؤال ماذا فيها؟
رسومات «العلى» لم تكن رسومات نمطية أو سطحية ذات تعليقات مباشرة. وإنما رسوماته بالإضافة إلى جمالها وتوظيفها للأسود والأبيض ببراعة فإنها كانت تحمل رسالة سياسية واجتماعية ضد أحوالنا العربية المتردية دوما. فكانت تعليقاته أشبه بطلقات رصاص، لا تقتل بقدر ما تثير الوعى وتوقظ لدى المتلقين النخوة والهمة. رسومات كاشفة للمؤامرات والمخططات ومخلخلة لأى تواطؤات…
وقد أبدع فى بلورة شخصية دائمة لا تكون شاهدة على ما يرسم ناجى العلى وإنما فى الحقيقة تكاد تكون هى التى ترسم والموحية بكل ما يخرج من إبداع. لذا كانت هذه الشخصية حاضرة فى الرسومات حيث تعطى ظهرها للقارئ. أحيانا تشارك فى الكتابة وفى الرسم. وأحيانا تكون شاهدة على مكونات الرسم. هذه الشخصية لا نعرف وجهها.
إنها شخصية «حنظلة»..
و«الحنظلة» هو نبات ثمرهُ مرّ، ويضرب المثل فى مرارته…إنها الإنسان العربي، الرجل والمرأة على السواء(فكلمة حنظلة لغويا: اسم علم مذكر عربي، مؤنث تأنيثا مجازيا)…
ورافق/رافقته «حنظلة» ناجى العلى فى كل ما رسم. كناية عن المواطن العربى الغاضب غضبا مرا.
كان «حنظلة»، حافى القدمين، لا يرتدى ملابس. وإنما يضع لباسا يلف به جسمه وتخرج من رأسه شعيرات بارزة أقرب للأشواك. يقف فى مكان ما فى الرسم يضع يديه خلف ظهره. وأحيانا يمد يده ليرسم أو يرفع علامة النصر…وعن «حنظلة» يقول «ناجى العلى» : «ولد حنظلة فى العاشرة من عمره وسيظل دائما فى العاشرة من عمره. ففى تلك السن غادر فلسطين، وحين يعود حنظلة إلى فلسطين سيكون بعد فى العاشرة ثم يبدأ فى الكبر، فقوانين الطبيعة لا تنطبق عليه لأنه استثناء كما أن فقدان الوطن استثناء»… ومن ثم حرص ناجى العلى أن يرسم بنيته ــ طول الوقت ــ على هيئة طفل. ولكنه الطفل المقاوم من أجل أجيال جديدة تعيش فى ظروف أيسر…الطفل الفيلسوف الذى يرقب الأحداث ويتمعن فيها ويعلق عليها تعليقا عميقا متعدد المستويات والأبعاد، إن اضطر للتعليق، ولم يكتف بالرسم الذى يحمل فى ذاته دلالات عدة.
لقد كانت شخصية حنظلة تعبر عن المواطن العربى الغاضب، والمتألم، والشاهد على الأحداث والرافض للأوضاع، ويحلم من خلال صراحته ـــ إن نطق ــ وخطوطه «أن تتبدل الأحوال».
لم يكن الغضب المصاحب «لحنظلة» الذى لم نشاهد وجهه قط ــ فى حدود علمى «غضب والسلام». وإنما كان غضبه مؤسسا على الوعى والفهم لطبيعة ما يحاك ضد المنطقة ومواطنيها من أجل إضعاف مقاومتها، ومن ثم حدوث تداعيات سلبية على أحوال العباد والبلاد لإبقاء الأمر الواقع على ما هو عليه… لقد فرح حنظلة «للعبور والانتفاضة» وكان واعيا لخطورة الانقسامات فى داخل البيت الواحد لأنها سوف تثمر فى النهاية ولادات مشوهة «إرهابية» فى المقام الأول، وقد كان…
حمل ناجى العلى ريشته يرسم ويرسم، لا يأبه بالتهديدات. حيث كان يمثل نموذجا حيا وعمليا للمثقفين والفنانين «المتمردين والرافضين» الذين عرفتهم أوروبا فى مواجهة الفاشية… فكان «ينطق بخطوطه عن كل ما هو مسكوت عنه فى الواقع العربى». مستهدفا «استعادة الوطن والانتصار له»…لقد نجح «ناجى العلى» فى أن يجعل من «رسمته» اليومية سواء فى السفير اللبنانية أو ما تلاها من دوريات رسالة حية للمواطن العربى عن واقعه. لا تقول له ماذا يفعل ولكن تثير الوعى داخله…وهنا كان دوره التاريخى الذى لم يحتمله البعض رغم مخاطبته العقل لا الغرائز مثل الإرهابيين…وقد نجح فى هذا الدور نجاحا كبيرا…
لقد انطبق على ناجى العلى ما قاله شاعرنا الكبير أمل دنقل ــ الذى لا يقل عنه غضبا أو رفضا ــ فى قصيدته: «قالت امرأة فى المدينة» من ديوان أوراق الغرفة 8، ما نصه:
فأشهد لنا يا قلم
أننا لم ننم
أننا لم نقف بين «لا» و«نعم»…