مكتبات معلّقة على جدران الشوارع… في غزّة
لم يكن مشهدًا عاديًّا ذلك الذي ظهر فيه ثلاثة أطفال يحملون كتبًا بعناوين مختلفة بين أيديهم، يطالعونها في الحيّ الهولنديّ، جنوب قطاع غزّة. إنّه منظر مثير للغرابة والفرح على حدّ سواء، ففي القطاع تحديدًا، الأطفال لا يقرؤون بقدر ما يخربشون، وكأنّ بينهم والكتب عداوة. هذا ليس ذمًّا، بل الحقيقة المرّة التي لا بدّ من أن نشير إليها بوضوح، فثقافة القراءة ليست موجودة إلّا عند قلّة من الناس هنا.
ولأنّ أكثر من 60% من المواطنين في قطاع غزّة يعانون من البطالة، في ظلّ الحصار المفروض للعام العاشر على التوالي، فإنّ الإنفاق على الرغيف له الأولويّة. إذًا، من أين جاء أطفال الحيّ الهولنديّ بهذه الكتب؟
كالنافذة
نظرة متفحّصة للمكان تكشف عن حقيقة وجود مكتبة جديدة بدرفتين، معلّقة على جدار، تفتح كالنافذة كلّ صباح أمام القرّاء من الأطفال، من دون وجود لائحة قيود أو شروط على استخدام هذه الكتب.
يستثمر الطفل محمّد المصري، أحد أبناء الحيّ الذي أنشأته وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا)، وافتتحته عام 2012، وجود المكتبة لمطالعة الكتب بدلًا من ممارسة كرة القدم تحت أشعة الشمس. وقد التقيناه جالسًا على مقعد خشبيّ محاذ للمكتبة المعلّقة، فقال لنا، وقد بدا مولعًا بالقصص التاريخيّة، إنّ الفرصة باتت سانحة الآن أمام التثقّف الذي كان يفتقده سابقًا، نتيجة عدم وجود مكتبة عامّة قريبة، وعجزه كذلك عن شراء الكتب.
القرّاء لا يسرقون
تربط محمّد، وغيره من الأطفال، علاقة وطيدة مع مها أبو شمالة (24 عامًا) من سكّان محافظة خانيونس، وهي صاحبة فكرة إنشاء هذه المكتبة، وكذلك مكتبات أخرى في أحياء متفرّقة من المحافظة.
حماس مها تجاه ظاهرة مكتبات الطرق في بريطانيا، هو الذي دفعها نحو تبنّي مبادرة ذاتيّة تقوم على جمع الكتب وإنشاء هذه المكتبات في القطاع، مؤمنة بالحكمة الإنجليزيّة: ‘القرّاء لا يسرقون، واللصوص لا يقرؤون’.
وأضافت أبو شمالة لفُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة: ‘كانت تراودني فكرة إنشاء مثل هذه المكتبات باستمرار، ولا سيّما أنّه من النادر توفّر مكتبات هنا، سواء للبيع، أو للاستعارة، أو للاستبدال، لذلك قرّرت البدء في مرحلة جمع كتب لتنفيذ الفكرة قبل عام ونصف تحديدًا، إلى أن جمعت آلاف الكتب، وباشرت في عمليّة تنفيذ المكتبات على أرض الواقع’.
الأطفال هدف
بعد أن تمكّنت صاحبة المبادرة من إنشاء ثلاثة صناديق حديديّة برفوف أفقيّة، بمعاونة أشخاص آخرين آمنوا بالفكرة، زوّدتها بـ 4500 كتاب، تتباين محتوياتها بين الأدب، والاقتصاد، والتاريخ، والقانون، وغيرها، ومن ضمنها كتب للطبخ، وذلك تلبية لاحتياج ربّات البيوت، كما تقول.
تسعى مها إلى نشر فكرة إقامة مكتبات عامّة في الشوارع والأحياء على نحو أوسع، ولا سيّما في المخيّمات الثمانية المقامة في مناطق متفرّقة من القطاع، ما يضمن توفير الكمّ الأكبر من كتب الأطفال الذين ترى أنّهم أكثر الشرائح احتياجًا للمطالعة والتثقيف.
تقول: ‘ما ألحظه أنّ أغلب الرواد من فئة الأطفال، ولهذا أسعى جاهدة إلى توفير القصص والكتب ذات القيمة المعلوماتيّة والمعرفيّة لهم’. مؤكّدة على أنّها تواجه
مشكلة في تجديد الكتب من حين لآخر، ولا سيّما بعد أن بدأ يملّ الأطفال منها، لذلك تفكّر في التوجّه نحو إتاحة الفرصة لاستبدال الكتب، بمعنى أن يستبدل مَن يملك كتابًا ما لديه بآخر من مكتبات الشوارع.
إطلاق سراح
وتتطلّع مها إلى إطلاق سراح الكتب من بين جدران المكتبات التقليديّة وإخراجها إلى النور، في الميادين العامّة والشوارع، حتى تكون في متناول الجميع، ما يعزّز من ثقافة القراءة لدى المجتمع الفلسطينيّ، ويعيد للكتاب الورقيّ أهمّيّته، في ظلّ انتشار الكتب الإلكترونيّة.
تتفقّد مها المكتبات في الصباح، بعد أن أودعت نسخًا عن مفاتيح الأقفال لدى أمناء متفرّغين من أهالي الحيّ، للإشراف على فتحها وإغلاقها يوميًّا، بناء على رغبة السكان، وذلك تطوّعًا ومن دون أيّ مقابل.
ربّما تكون فكرة أبو شمالة الأولى من نوعها على مستوى فلسطين، إذ لم يذكر أنّ مكتبات افتُتحت على هذه الشاكلة، باستثناء ظاهرة انتشار الكتب على أرصفة الطرقات، وهي عمليّة ربحيّة.
تواجه صاحبة الفكرة صعوبات كبيرة في توفير كتب جديدة، نظرًا لإحجام المراكز والمؤسّسات المعنيّة عن التبرّع بالكتب، ما يشكّل عائقًا أمام انتشار الفكرة في أماكن آخرى من القطاع.
المصدر موقع عرب48